ان الذي يؤمن بمحبة الله له ، وسهره علي راحته ، وبحكمة الله وحسن تدبيره لحياته ، وبأن الله صانع الخيرات ، يعمل لأجله
كل خير . هذا يمكنه أن يسلم حياته لله ، يديرها كيفما يشاء .
بهذا الاقتناع يحيا باستمرار في طاعة الإُيمان .
إنه يسلم حياته وهو مطمئن وسعيد
أما
الذي لا يحيا في حياة التسليم ، فإنه علي عكس يعيش قلقاً علي حياته ويظل
يفكر : ماذا أكون ؟ وكيف أكون ؟ ومتي أكون ؟ وهل ينبغي أن أغير ما أنا فيه
؟ وبأية وسيلة ؟ أم أظل كما أنا ؟ ويتعبه التفكير ، وغالباً ما يفقد سلامه
ويظل في سعي مستمر ، ومناقشة الأمور مع نفسه ، إلي غير نهاية . ولا يفكر
مطلقاً أن يستريح ، ويترك الأمر لله مثل رجل الإيمان .
الإنسان المؤمن عندما يسلم حياته ، لا يشترط عليه شروطاً ، ولا يطلب منه ضمانات ، ولا يراقب الله في عمله معه .
إنه
واثق بالله كل الثقة ، في محبته ، وفي حكمته ، وفي قدرته . مؤمناً أن الله
يعرف ما هو الخير له أكثر مما يعرف هو . لذلك يسلم حياته في يد ى الله ،
وينساها هناك . وهكذا نراه لا يحمل هماً . مادام هو مؤمناً بعمل الله من
أجله . لا يمكن أن يقلق ويهتم ، ولا يمكن أن يتعب نفسه بالتفكير . فالمؤمن
يحيا في راحة ، أكثر من الذي يفكر لنفسه ويتعبه تفكيره
…
كثيرون لا يقبلون التسليم لله ، إلا إذا فشلت طرقهم البشرية !
منهجهم
الأساسي هو الاعتماد على الذراع البشرى كل الاعتماد : إما اعتداداً بذهنهم
وقدراتهم وحيلهم ، أو لتعودهم هذا الأسلوب ، أو لخطأ عقيدى عندهم ، أو
اقتناعاً بأن الله لا يلجأ إليه الإنسان إلا في حالة العجز والفشل
الكاملين ! حينئذ يأتون إلى الله ، لأنهم جربوا حيلة وكل وسيلة وما وصلوا
إلى غايتهم ، ولأن فكرهم تعب وأنهك بلا فائدة . فلم يبق سوى الله !
ليس هذا هو الإيمان ، إنما هذا هو الإضطرار إلى الله .
الإيمان هو أن تلجأ إليه فى الصغائر ، كما تلجأ إليه فى الكبار .
قال السيد المسيح " بد ونى لا تقدرون أن تعلموا شيئاً " ( يو 15 : 5 ) . ذلك
لأن كل طاقة لنا هي من عنده
…
حتى الفكر الصائب ، وحتى مجرد الإرادة الطيبة ، وحتى القدرة على العمل .
وذ كاؤنا هذا الذي نعتمد عليه ، هو أيضاً من عنده . وما أصدق قول الرسول "
لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل تعلموا لأجل المسرة "
(فى 2 : 13 ) .
إن عملنا فى الواقع ، هو أن نشترك مع الله ، فى عمله لأجلنا .
وهذه هى شركتنا مع البيعة الإلهية ، شركتنا مع الروح القدس :
نشترك
مع الله فى العمل . كما قال القديس بولس الرسول عن نفسه وعن زميله أبولس "
نحن عاملان مع الله " ( 1كو3 : 9 ) . وكل عمل لا يشترك الله معنا فيه ، لا
يكون عملاً مقدساً ، ولا عملاً مباركاً . وتسليمنا الإرادة لله ، هو نوع
من الشركة معه ، نكون فيه كالآت طيعة بين يدية تعمل مشيئته . هو يسيرها
كيفما يشاء . وهى تعمل بفكره وإرادته ، أو بتسليم إرادتها لإرادته ، كشركة
الحواس مع المخ …
إن أخطر ما يهدد الحياة الروحية ، هو استقلال الإنسان عن الله .
وهذه
هى الخطية الكبرى التى وقع فيها شاول الملك فرفضه الله (1صم 16 ) . كان
يعمل بفكره وبتدبيره ، بعيداً عن مشورة الله وعن شركته . ولا يرى أنه
محتاج إلى أن يشترك الله معه في العمل . وكأنه يقول : مادمت أستطيع أن
أعمل هذا العمل ، فسأعمله ، بكل قوة ، وبكل سرعة ، وحتى بدون صلاة
…
لأن إرادتى وحدها هى التى سوف تعمله …
! وبدون اعتماد على الله . وإن فشلت ، ألجأ إليه ! مادام الله قد وهبنى عقلاً وإرادة ، فلماذا لا أستخدمهما ؟!
…
وكثيرون مثل شاول …
الله قد وهب البشرية العقل والإرادة . ولكن ليس لتستقل عنه !
وليس لكى تعتد بذاتها . فالكتاب يقول " وعلى فهمك لا تعتمد " (أم 3 : 5
) . ولنتذكر أن خطيئة الإنسان الأول ، كانت محاولته الحصول على المعرفة بعيداً عن الله ( تك 3 )
ومتى بدأ الإنسان يقول " أنا أعرف ، وأنا أقدر ، فما الحاجة فى هذا
الأمر إلى الله ؟! " يكون حينئذ قد بعد عن الإيمان بالله بالأنا ( الذات )
ال
Ego
…
أما المؤمن فلا يكتفى بالاعتماد على الله ، بل يسلمه كل شئ
…
ويقول
له :حياتى هى صنع يديك ، وهى الآن بين يديك ، إفعل بها ما تشاء . حيثما
تسيرنى أسير ، وكيفما تصيرنى أصير . أنا ليست لى إرادة خاصة ، فإرادتى
الوحيدة هى أن أصنع إرادتك ، وأن أتحد بإرادتك ، فأريد ما تريده أنت ، أنت
يا صانع الخيرات
…
لست أقول عن شئ إننى أعرف . فكل معرفة الإنسان هى جهالة عند الله (1كو 1 :
20 ) . المعرفة الحقيقية هى من عندك يارب وحدك . أنت هو الحكمة (1كو 1 :
24 ) . أنت " المذخر فيه كل كنوز الحكمة والعلم " (كو2 : 3 ) .
ولأننى أعترف أننى لا أعرف لذلك سلمت حياتى فى يديك .
أنت
تعرف الخير أكثر مما أعرفه . وأنت تعرف الخير لى أكثر مما أعرفه لنفسى .
وأنا واثق بحكمتك وبحسن تدبيرك لحياتى . حتى إن شئت لى التجربة أو الضيقة
، فأنا أقبلها باعتبار أنها خير خالص هو من يديك . ولولا ذلك ما كنت أنت
المحب ترضاها لى . حقاً فى حالات كثيرة ، لا تعرف أين هو الخير !
إن حياة التسليم لا تعرف الشكوى ولا التذمر ، بل تقبل كل شىء برضى وفرح
…
مادمت
يا أخى تثق بحكمة الله فى تدبيرك ، فلماذا إذن أنت تشكو أو تتذمر أو تتضجر
. إذا دخل التذمر إلى حياتك ، فافحص نفسك جيداً ، لئلا يكون إيمانك قد ضعف
وأنت لا تدرى .
الذى يحيا حياة الإيمان والتسليم ، يحيا دائماً فى فرح وفى شكر .
إنه
لا يشكو بل يشكر ، الابتسامة لا تفارق شفتيه ، والبشاشة لا تفارق وجهه ،
والفرح لا يفارق قلبه . إنه يؤمن بحكمة الله ومحبته . ويؤمن أن مشيئة الله
دائماً صالحة ومفيدة . وهو يخضع لمشيئة الله فى فرح …
لايخضع لمشيئة الله فى تغصب واضطرار.
وكأن قلبه يقول لله : " ماذا أفعل يارب ؟ أنت هو القوى وأنا الضعيف . وكل ما تعمله أنا أقبله . وأنا منتظر نهاية هذا الأمر
…
!! " . لا شك أن هذا كلام إنسان متعب فى داخله ، يتكلم بكلام تذمر فى أسلوب تسليم . وليس التسليم هكذا
…
إذن ما معنى " لتكن مشيئتك " فى حياة الإيمان وحياة التسليم ؟
الإنسان
المؤمن يقول يقول فى رضى قلبى كامل : أنا يارب خاضع لمشيئتك ، لأنى أحب
مشيئتك من أعماقى ، وأثق بك وبها . مشيئتك هذه أصلحت أفكارى ، وأصلحت
أحكامى على بعض الأمور ، وعدلت مسارى وطريقى …
ما أجمل طرقك يارب " ما أبعد أحكامك عن الفحص ، وطرقك عن الاستقصاء "
(رو11 : 33 ) . مشيئتك هذه هى أجمل أغنية فى فمى ، وأحلى الأخبار فى أذنى
. فلتكن مشيئتك إذن ، لأنه لا توجد مشيئة أخرى أياً كانت أصلح منها . إلى
جوارها أشعر بجهالة أية مشيئة تتعارض معها ، سواء كانت لى أو لغيرى …
ليست حياة التسليم ، هى الخضوع لسياسة الأمر الواقع ، دون اقتناع !
وليست
هى الخضوع لسياسة الضغط الإلهى ( ! ) الذى يفرض سلطانه عليك فرضاً ! وأنت
مضطر أن تخضع له سواء أردت أو لم تردد !! لا يا أخوتى ، ليس هذا هو معنى
عبارة " لتكن مشيئتك " . فحياة التسليم تعلمنا أن نشعر بأن مشيئة الله هى
الخير الكامل ، وهى أصلح ما يصلح لنا ، وهى سبب فرحتنا وبهجتنا ، ولهذا
كان داود النبى يتغنى بأحكام الله . ويقول للرب : أحكامك هى درسى . أحكامك
هى لذتى . أنا أتأمل أحكامك وأدرسها (مز119) .
التسليم لله ينبغى أن يكون تسليماً حقيقياً ، وليس حسب الظاهر .
البعض يظن أنه يسلم حياته لله ، بينما يفرض على الله خططه !
كلما
يتصرف الله فى حياته ، يحاول أن يستوقف الله ، ويقول له : إنتظر يارب لأرى
ما أنت فاعل بى . لا يصلح هذا الأمر . إعمل كذا وكذا لأستريح . وهكذا يود
أن يشتغل عند الله وزير تخطيط . هو يخطط ، والله ينفذ !! كلا ، ليس
التسليم هكذا ، إنما هو أن تترك الله يعمل حسبما يشاء ، وترضى بما يعمل .
ولا تقاوم خطط الله بتصرفاتك . لا تقاوم مشيئة بما تعمله حسب هواك
…
الإنسان المؤمن يترك التدبير الله . ولا يقبل أن يدبر نفسه بنفسه .
ماذا كانت خطية أبينا آدم سوى أنه بدأ يدبر نفسه : كيف يصل إلى المعرفة ؟ كيف يصير مثل الله ؟ كيف يكون نفسه ويبنيها
…
وهكذا سقط .
وخطية الشيطان ، هى أنه بدأ يدبر نفسه ، ويبنيها ويكبرها حسب هواه !
" أصعد إلى السموات . أرفع كرسى فوق كواكب الله
…
أصعد فوق مرتفعات السحاب . أصير مثل العلى " (1ش14 : 13 ، 14 ) . إنها خطط
تشبه أحلام اليقظة ، رسمها الشيطان لنفسه " فانحدر إلى أسافل الجب " .
وبالمثل الذين بنوا برج بابل ، جلسوا يخططون لبناء أنفسهم ، ففشلوا .
قالوا
" هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه فى السماء . ونصنع لأنفسنا إسماً
لئلا نتبدد على وجه الأرض " (تك11 :4 ) . فكان تخطيطهم ضدهم . وما خشوه ،
هو الذى صاروا إليه " فبددهم الله على وجه كل الأرض " (تك11 : 9 ) . أما
الإنسان الروحى فلا يفعل هكذا ، بل فى حياة التسليم يقول :
" إن لم يبن الرب البيت ، فباطلاً يتعب البناءون " (مز127 :1) .
الله هو الذى يبنينا وليس نحن . إذن نسلمه أنفسنا ليبنيها .
وهكذا
نعيش فى راحة ، مطمئنين إلى عمل الله فينا ، وإلى نجاح عمله . نقف ونتأمل
، فنرى عجائب من تدبيره . واثقين أنه يعمل الخير ، مهما كان الذى يحدث
أمامنا غريباً ، أو صعباً ، أو ضد ما كنا نرجوه .
ليس المهم أن نفهم ما يعمله الله . إنما المهم أننا بالإيمان والتسليم نتقبله .
والكتاب المقدس حافل بأمثلة التسليم فى حياة رجال الإيمان :
1
–
أبونا إبراهيم مثلاً ، كانت بداية قصته مع الله ، هى قول الله له " أترك أهلك وعشيرتك وبيت أبيك ، إلى الأرض التى أريك " (تك12
:1) .
وأبونا إبراهيم لم يسأل لماذا ؟ ولا إلى أين ؟ بل أطاع
…
هذه هى حياة التسليم ، التى لا تجادل ولا تناقش ، بل تقبل وتطيع ، بلا تردد . تدع فهمها جانباً ، وتركز على أمر الله .
2
–
وهكذا كان نوح فى الفلك ،
وكان يونان فى بطن الحوت ، وكان موسى فى البحر الأحمر
…
فى حياة تسليم كامل .
إنها طاعة الإيمان . مادام الله يريد هذا ، فنحن لا نناقشه . وما هو عقلنا المحدود الضعيف ، حتى يناقش الله غير المحدود ، كلى الحكمة
…؟!
إن موسى فى بدء إرساليته جادل الله فى كيف يدخل إلى فرعون (خر3) ، ولكنه
لما نما فى الإيمان والتسليم لم يجادل فى دخوله البحر الأحمر
…
3
–
القديسة العذراء مريم عاشت كمثال لحياة الطاعة والتسليم .
مع
كل محبتها للبترولية ، قيل لها أن تخطب لرجل وتعيش معه فى بيت واحد ،
فأطاعت . وأرسل لها الله ملاكاً يقول لها إنها ستحبل وتلد ، فقالت له "
هوذا أنا أمة الرب . ليكن لى كقولك " (لو1 : 38 ) …
ومع ولادتها لله الكلمة ، ورؤيتها كل ما أحاط بهذا الميلاد من معجزات ،
قيل لها أن تهرب به إلى مصر وتتغرب هناك ، فقبلت كل ذلك فى طاعة الإيمان .
وفى تسليم أيضاً رجعت من مصر ، وقبلت
أن تسكن فى الناصرة (متى2 :23) ، التى قيل إنها لا يخرج منها شئ
صالح (يو1 :46) . وكان شعارها فى حياة التسليم هذه ، عبارتها الخالدة
"ليكن لى كقولك "
4
–
ولعل الإيمان والتسليم يظهران فى حياة الرسل فى طاعتهم التلقائية لقول الرب
"إتبعنى" أو "هلم ورائى "
هكذا
قال الرب لمتى ( لاوى ) . وهو فى مكان الجباية (مر2 :14) فلم يناقش وإنما
" ترك كل شئ وقام وتبعه " (لو5 : 28 ) . ولم يفكر مطلقاً فى كل مسئولياته
وعمله . وبالمثل لما دعا الرب بطرس وأندراوس وباقي الرسل ، يلخص القديس
بطرس كل قصص هذه الدعوة بقوله للرب ( تركنا كل شيء وتبعناك ) ( لو 28:18 )
. أنها طاعة الإيمان التي تتبع الرب حيثما ذهب ، بلا سؤال ، بلا استفسار ،
بلا تفكير في المستقل\بل . وكما سنشرح أن كلاً منهم أطاع وهو لا يعلم إلي
ين يذهب ( عب 8:11 )
ونحن كثيراً ما ندعي ، فنحاول أولاً أن نطمئن على مستقبلنا .
لذلك نسأل الكثير من الأسئلة . ونحصل على ما نستطيعه من الضمانات وبكل هذا تخرج من الإيمان إلي العيان
…
إلي المستقبل الذي نراه بعيوننا ونطمئن إليه ، وليس إلي المجهول الذي نراه ، ونقبله بحياة التسليم والطاعة
…
5- من أمثلة حياة الإيمان والتسليم والطاعة ، أرميا النبي
سار وراء الله بالإيمان ، في طرق لم يفكر مطلقاً أن يسير فيها
…
وأخيراً لخص خبرته
في
حياة التسليم في عبارة عميقة قال فيها ( عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقة
ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته ) ( أر 23:10 ) . ولماذا لا يهدي خطواته ؟
لأن الله هو الذي يقود هذه الخطوات ويهديها …
هذه هي حياة التسليم ، أن تسير وراء الله ، وليس وراء فكرك
تسير
ليس وراء هواك ورغباتك ، وليس وراء مشيئة الناس أو مشورة الناس إنما وراء
الله نفسه الذي يقود حياتك . يضعها في أي وضع وفي أي موضع ، حسب أعماق
حكمته . فاسأل نفسك هل الله هو الذي يقود حياتك ؟ أم تقودها رغبة معينة ،
هي التي تحدد تصرفاتك ومسير خطواتك ؟
6- من الأمثلة العجيبة في حياة التسليم : يوسف الصديق
أظهر
له الله بالرؤي أنه سيصير سيداً لأخوته ، وسيجدون له جميعهم ( تك 10:37)
فماذا كان تحقيق الوعد ؟ أخذه إخوته وألقوه في بئر ليقتلوه . ثم باعوه
كعبد . وسحبه المديانيون من البئر ليبيعوه للإسماعيليين ( تك 28:37 ) . ثم
بيع لفوطيفار ليخدم في بيته
…
وفي كل هذا لم يحتج يوسف متذمراً على الرب وعلى أحلامه
…
بل سكت . وسلم في هدوء لما سمح به الرب ، وسلك بكل أمانة وإخلاص وقبل الحياة كخادم
…
ولكنه رضى بالبلوى ، والبلوى لم ترض به ! فإذا بتهمة باطلة رديئة تلفق ضده ، ويلقي به في السجن كفاعل أثم
…
!
ولم يحدث أن يوسف سأل الرب لماذا ؟
…
أو أين هي وعودك ؟
سكت
في مثل رائع لحياة التسليم وطاعة الإيمان . ولم يتذمر مطلقاً . وفي المرة
الوحيدة التي خرج فيها قليلاً جداً عن حياة التسليم ، وقال لرئيس السقاه
بعد أن فسر له حلمه ( حينما يصير لك خير ، تصنع إلي أحساناً ، وتذكرنى
لفرعون ، وتخرجني من هذا البيت ) ( تك 14:40 )
…
لما فعل هذا ، أجاب الوحي الإلهي على هذا الطلب بقوله ( ولكن لم يذكر رئيس السقاة يوسف، بل نسيه ) ( تك 23:40 )
…
ولكن الله لم ينس يوسف ، الذي بقى في السجن في حياة التسليم ، حتى أخرجه الله منه بمجد عظيم
…
7- ومن أمثلة حياة التسليم وطاعة الإيمان : داود النبي .
كان ( يرعى الغنيمات القليلات في البرية ) . وأرسل له الله صموئيل النبي ومسحه ملكاً . ولكنه لم يسلمه من الملك شيئاً
…
وبقى يرعي الغنيمات القليلات ، دون أن يتذمر . ثم اختير خادماً للملك شاول
المرفوض من الله الذي بغته روح ردئ من قبل الرب ( 1 صم 14:16 )
…
ولم يحتج داود
لم يقل أنا الملك المختار من الله . فكيف أخدم هذا المرفوض ؟!
بل في حياة التسليم تقبل الوضع . وكان يهدئ شاول الملك حينما تبغته الشياطين
…
وظل شاول يطارد داود ناقش الله ، أو قال له أين مواعيدك ؟ أين أستحق كل هذا ؟!
…
بل انتظر ، في هدوء وفي تسليم ، خلاص الرب . وقد كان …
8- ومن أمثلة حياة التسليم : تلاميذ الرب
دعاهم
الرب للخدمة كما قال لبطرس وأندراوس ( هلما ورائي فأجعلكما صيادي الناس)(
متى 19:4 ) ومرت ثلاث سنوات وهم يتبعونه ، دون أن يخدموا . ولم يصيدوا أحد
. ثم صلب الرب . وخافوا ، وأغلقوا على أنفسهم في العلية لئلا يصيدهم
اليهود
…
ومع كل ذلك لم يشكوا . وبقوا في حياة الإيمان والتسليم . وأخيراً بعد حلول
الروح القدس ، تمم الرب وعده . وفي يوم واحد تمكن بطرس بعظة واحدة من أن
يصيد ثلاثة آلاف نفس
…
ولو أنه كان كل يوم يصيد نفسين ، ما وصل إلي هذا الرقم كله ، ولكن حياة التسليم تقول للرسول :
. وانتظر الرب ) ( إنتظروا الرب . تقو وليتشدد قلبك
( مز 14:27 )
نعم يا رب سأنتظر وعدك في صيد الناس . ولكن هل إلي ثلاث سنوات وأكثر ؟ أنه
لكذلك . ولكن ( ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الله في
سلطانة وحده ) ( أع 8:1)
أن حياة التسليم لا تناقش الرب في مدى الانتظار الطويل لمواعيده
أنها
لا تقول له لماذا يا رب تجعل بطرس ينتظر أكثر من ثلاث سنوات ليصير صياداً
للناس ؟ ولماذا تترك إبراهيم ينتظر خمسة وعشرين عاماً حتى تحقق له وعدك في
ميلاد أسحق ؟ ولماذا تترك داود في مذلته من شاول عشرات السنوات ، حتى تحقق
له اختيارك له ملكاً
…
؟
إن حياة التسليم لا تشك ، وتري في الإنتظار جكمة إلهية .
فقد
كان داود صبياً حين اختياره . وكان الإنتظار نافعاً له حتى يكبر وينضج ،
وحتى يزداد الناس حباً له يوماً . كذلك كان الإنتظار نافعاً لبطرس حتى
تكتمل تلميذته للرب ، وحتى يحبن موعد حلول الروح القدس لينال به قوة هو
وسائر الرسل . كذلك كان الإنتظار نافعاً اسحق ، ليصير إبناً للموعد
…
9
–
من أجمل الأمثلة فى حياة التسليم : تقديم اسحق محرقة .
لقد
صبر ابرآم خمساً وعشرين سنة ، حتى ولد له اسحق ، إبنه المحبوب الذى أخذ
المواعيد من أجله . وفرح به فرحاً لا يوصف . وكبر اسحق . وإذا بالرب يقول
لأبينا إبراهيم " خذ إبنك وحيدك ، الذى تحبه ، إسحق …
وأصعده محرقة على أحد الجبال الذى أريك "
( تك22 :2 ) …
أى قلب يمكنه أن يحتمل هذا ؟! وأى عقل يسمع هذا ولا يشك
…
؟!
ولكن ابانا إبراهيم فى حياة التسليم ، لم يناقش
، ولم يتردد فى التنفيذ . بل بكر صباحاً ، وأخذ إسحق ليذبحه …
ولم يحسب نفسه أحن من الله …
ولم يشك فى محبة الله ولا فى حكمته …
إن الطاعة لا تكون فى الأمور السهلة فقط ، وإنما تظهر فى قمة سموها فى الأمور التى تبدو صعبة جداً فى التنفيذ .
حياة التسليم تظهر فى الدخول من الباب الضيق والطريق الكرب .
مادمت
أنت يا رب موافقاًعلى هذا الباب الضيق ، فإنه يكون أصلح الأبواب للدخول ..
ولا نناقشك بل نفرح بذلك ، ونرى أنك تختبر به محبة أولادك ، ونقاوة قلوبهم
، وتعد به لهم أكاليل ملكوتك …
وبهذا
الإيمان ، استقبل الشهداء والمعترفون كل أنواع الآلام في فرح . وكل أولادك
يا رب كانوا ( يحسبونه كل فرح حينما يقعون في تجارب متنوعة ) ( يع 2:1)
1-
هكذا سار أبونا إبراهيم وراء الله ، إلى المجهول
…
لم يكن يعلم إلى أين الطريق ، إنما كان واثقاً أن الله يصحبه فى الطريق ، ويرشد خطاه
…
2-
وهكذا حدث مع آبائنا الرسل الأطهار ، لما دعاهم الرب فتبعوه .
وهم لا يعلمون إلى أين
…
إذ لم يكن للمسيح مقر معروف ، بل لم يكن له أين يسند رأسه
( لو9 :58 ) .كان يطوف المدن والقرى يعلم ويشفى ، مع أنه لم تكن له وظيفة رسمية فى المجتمع اليهودى
…
ولم يكن له دخل مالى معروف . وحتى لما دعا تلاميذه ، قال لهم " لا تحملوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً فى مناطقكم
…
ولا تحملوا معكم شيئاً للطريق " (متى 10 :9 ، مر 6 : 8 ) .
ولو
سألت أحد تلاميذه وقتذاك : ما هو عملك ؟ وما هو مستقبلك مع المسيح ؟ لوقف
وأوقفك معه ، أمام علامة استفهام كبيرة لا يعرف لها جواباً ، سوى حياة
التسليم …
يكفيه أنه سائر مع المسيح ، مع أنه معه وفى وجوده لايعمل شيئاً …
المسيح يعمل كل شئ ، وتلاميذه مجرد متفرجين .
3-
3-خذوا مثالاً لذلك القديس مار مر قس الرسول حينما دخل الإسكندرية :
دخلها وهو لا يعلم إلى أين يذهب ، إذ لم تكن هناك كنيسة يستقر فيها ، ولم يكن له هناك شعب ، ولا مسكن
…
بل على العكس كانت الوثنية فى كل مكان ، وكانت اليهودية تقاوم الإيمان جاء
مارمرقس إلى مصر ، وأرشد الله خطاه إلى إنيانوس ، وما كان فى فكره هذا
الأمر
…
وما حدث لمارمرقس ، حدث تقريباً لباقى الرسل . تتنوع الأمكنة والأسماء ، ولكن قلب الموضوع واحد . وكأن كل رسول كان يقول :
لو كانت الخدمة عملاً بشرياً ، لكان يهمنى أن أعرف خطية مسيرى . أما والخدمة عمل إلهى ، فلا يهمنى إلى أين أذهب
. أنا مع الله . حيث قادنى أسير .
4
–
يوحنا المعمدان كان يرى أن واجبه هو أن يشهد للحق . فشهد للحق وقال لهيرودس الملك "
لايحل لك " ولم يهتم بعد ذلك إلى أين يذهب : إلى السجن ، إلى الموت
…
ليكن ما يكون . رسالة الله تتم فى طاعة إيمانية كاملة . أما الحياة ، وأما المصير ، فهما مسلمان الله
…
إلى التمام . وهكذا كان بولس الرسول يشهد للرب …
وبعد ذلك لا يهمه إلى أين يذهب : "أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عرى أم
خطر أم سيف " ، يقول فى ثقة بحياة التسليم " لكننا فى هذه جميعها ، يعظم
انتصارنا بالذى أحبنا " ( رو8 : 35 ،37 ) . بهذا الأسلوب ، سار أولاد الله
جميعهم
فى طريق الحياة فى حياة التسليم .
كل ما يهمهم هو أن الله يقودهم . ولكن لا يعنيهم إلى أين
…
ولكنهم واثقون بالإيمان ، أنه سيقودهم إلى المراعى الخضراء ، وإلى ينابيع
الماء الحى . خبرتهم مع الله تجعلهم مسرورين بقيادته ، واثقين بمحبته .
5
–
إسحق بن ابراهيم حمل الحطب وراء أبيه ، ولم يعلم إلى أين يذهب .
كل
ما تعلمه فى حياته ، هو التسليم والطاعة ، وبهما سار حتى إلى المذبح .
وربطه إبراهيم أبوه ووضعه على المذبح فوق الحطب ( تك22 ) ، ورفع عليه
السكين . كل هذا وإسحق فى تسليم كامل . لم يشك فى محبة الله …
وانتصر على طول الخط . بتسليمه هذا ، كسب طاعة الإيمان ، وكسب حياته ، وكسب وعود الله
…
6
–
لعازر الدمشقى لما سافر ليختار زوجة لإسحق ، ما كان يعلم إلى أين يذهب .
ولكنه
سلم خطاه لله ليرشده . ودبر الله له كل شئ بطريقة عجيبة وقف أمامها
مذهولاً . وتم كل شئ حسبما طلب منه سيده ابراهيم . ولهذا قال " الرب أنجح
طريقى " (تك 24 : 56 ) . ولعل لعازر الدمشقى كان يقول " لم أكن أعلم إلى
أين أنا أذهب . لكنى كنت أعلم تماماً أن الله ذاهب معى " . ونفس الوضع
تقريباً حدث ليعقوب فى رحلته إلى خاله لا بان . وما أجمل قول الرب له "
هاأنا معك . أحفظك حيثما تذهب " ( تك28 :15 ) .
7
–
الشعب فى البرية ، أتراه كان يعلم إلى أين يذهب ؟!
ما
كان يعلم شيئاً . كان الله يقوده يوماً بيوم . وكان يرتحل بإرشاد إلهى ،
ويقف بإرشاد إلهى ، ويقف بإرشاد إلهى . وكان هذا الإرشاد يتمثل فى السحابة
تظلله نهاراً ، وعمود النار يهديه ليلاً …
والشعب فى تسليم كامل لقيادة الله ، لا يسأله إلى أين …
؟ وما كانت أمام موسى النبى خطة لمسيرة ، وكأنه يقول : يكفينا يارب أن تكون سحابتك فوق رؤوسنا ، وعمود
النار أمامنا . نحن لا نحدد مسارنا ، إنما تحدده مشيئتك الصالحة . أما نحن فيسعدنا
أننا تحت قيادتك . حيثما سارت سحابتك نسير . وحيثما حلت نستظل تحتها …
يفرحنا أننا نرى فوق تابوت العهد الضباب الذى يمثل وجودك . فلتتحرك خيمة
الإجتماع فى البرية نحو المجهول . إنه مجهول بالنسبة إلينا . ولكنه فى
علمك ومعرفتك منذ الأزل . وهذا يكفينا ، لكى نسلم خطانا لهذا المجهول ،
ونحن فى ملء الثقة بأننا فى طريق كنعان
8
–
القديس الأنبا أنطونيوس أب جميع الرهبان ، حينما دخل إلى الجبل ، أتراه
كان يعلم إلى أين يذهب ؟! وكذلك القديس الأنبا بولا أول السواح
…
وأيضاً كل السواح والمتوحدين حينما توغلوا فى البرية الجوانية
، ما كان أمامهم هدف مكانى معين يقصدونه . كل ما كان أمامهم هوالهدف الروحى وهو أن ينفردوا
بالله فى حياة السكون والهدوء ، مسلمين حياتهم بالكلية له " تائهين فى البرارى والجبال وشقوق الأرض "
…
تسأل كل واحد من التائهين فى البرارى : أتعلم أين أنت ؟ فيجيبك :
على خريطة المكان ، لست أعلم أين أنا
…
ولكن على خريطة الحب ، أعلم أننى فى حضن الآب .
9
–
ولعل البعض يسأل : أما ينبغى أن يحسب كل إنسان حساب النفقة ، حسب وصية الرب نفسه
(لو14 :28 ) ؟ إن حياة الإيمان ، هى أبعد ما تكون عن علم الحساب
الذى يقصدونه . إذن ما الذى يقصده الرب بأن يجلس الإنسان أولأ ويحسب
النفقة ؟
حساب النفقة هو : هل عندك من الإيمان ما يكفى ؟
هل عندك من الإيمان ما تسلم به الأمر كله لله لكى يدبره ؟ إنك
تفعل ما تستطيعه . ولكن هذا هو أقل المطلوب . أما العنصر الأساسى فهو إيمانك بما يفعله الله ، وتسليمك له كل الأمر
…
وهذا كان منهجنا ، حينما كنا نريد أن نبنى كنيسة أو أى مشروع للخدمة
والرعاية . لم يكن السؤال الأساسى هو " من أين التكاليف ؟" ، إنما كان
السؤال الأساسى هو : هل الله موافق على هذا البناء أم لا ؟ فإن كان
موافقاً فهو الذى سيقوم بكل تكاليفه . وما علينا إلا أن نبدأ ، ويد الله
تكمل العمل معنا " وإن لم يبن الرب البيت ، فباطلاً يتعب البناءون " (
مز127 : 1 ) .
الإيمان هو أن تغمض عينيك ، وتبصر الله .
طالما
أنت تفتح عينيك ، فأنت تسير بالحواس الجسدية . أما إن أغمضت هذه العين
الجسدانية ، حينئذ سوف تسلك بالقلب والروح . إن تأكدت بحواسك الروحية أن
الله سيذهب معك فى طريق سر فيه ولو كان فى وادى ظل الموت . يقنيناً هناك
سوف لا تخاف شراً لأن الرب معك (مز23) .
10
–
هذه هى حياة التسليم ، التى فيها يختار الرب لنا ما نشاء ، دون أن نختار نحن لأنفسنا . آخذين درساً من قصة لوط وإبراهيم .
لوط
اختار لنفسه السكنى فى سادوم ، الأرض المعشبة ( تك14 :10 ،11 ) . وكان
يعلم إلى أين يذهب . أما إبراهيم فلم يختر لنفسه شيئاً . إنما قال له الرب
" إرفع عينيك وانظر …
جميع الأرض التى أنت ترى ، لك أعطيها " ( تك 10 : 14 ،15 ) …
وماذا كانت النتيجة ؟ لوط سبى وهو فى سادوم وأنقذه إبراهيم ( تك 14 ) . ثم احترق كل ماله فى سادوم وخسر الكل
…
وهكذا كانت حياة التسليم التى لإبراهيم ذات نتيجة أفضل …
منقول
كل خير . هذا يمكنه أن يسلم حياته لله ، يديرها كيفما يشاء .
بهذا الاقتناع يحيا باستمرار في طاعة الإُيمان .
إنه يسلم حياته وهو مطمئن وسعيد
أما
الذي لا يحيا في حياة التسليم ، فإنه علي عكس يعيش قلقاً علي حياته ويظل
يفكر : ماذا أكون ؟ وكيف أكون ؟ ومتي أكون ؟ وهل ينبغي أن أغير ما أنا فيه
؟ وبأية وسيلة ؟ أم أظل كما أنا ؟ ويتعبه التفكير ، وغالباً ما يفقد سلامه
ويظل في سعي مستمر ، ومناقشة الأمور مع نفسه ، إلي غير نهاية . ولا يفكر
مطلقاً أن يستريح ، ويترك الأمر لله مثل رجل الإيمان .
الإنسان المؤمن عندما يسلم حياته ، لا يشترط عليه شروطاً ، ولا يطلب منه ضمانات ، ولا يراقب الله في عمله معه .
إنه
واثق بالله كل الثقة ، في محبته ، وفي حكمته ، وفي قدرته . مؤمناً أن الله
يعرف ما هو الخير له أكثر مما يعرف هو . لذلك يسلم حياته في يد ى الله ،
وينساها هناك . وهكذا نراه لا يحمل هماً . مادام هو مؤمناً بعمل الله من
أجله . لا يمكن أن يقلق ويهتم ، ولا يمكن أن يتعب نفسه بالتفكير . فالمؤمن
يحيا في راحة ، أكثر من الذي يفكر لنفسه ويتعبه تفكيره
…
كثيرون لا يقبلون التسليم لله ، إلا إذا فشلت طرقهم البشرية !
منهجهم
الأساسي هو الاعتماد على الذراع البشرى كل الاعتماد : إما اعتداداً بذهنهم
وقدراتهم وحيلهم ، أو لتعودهم هذا الأسلوب ، أو لخطأ عقيدى عندهم ، أو
اقتناعاً بأن الله لا يلجأ إليه الإنسان إلا في حالة العجز والفشل
الكاملين ! حينئذ يأتون إلى الله ، لأنهم جربوا حيلة وكل وسيلة وما وصلوا
إلى غايتهم ، ولأن فكرهم تعب وأنهك بلا فائدة . فلم يبق سوى الله !
ليس هذا هو الإيمان ، إنما هذا هو الإضطرار إلى الله .
الإيمان هو أن تلجأ إليه فى الصغائر ، كما تلجأ إليه فى الكبار .
قال السيد المسيح " بد ونى لا تقدرون أن تعلموا شيئاً " ( يو 15 : 5 ) . ذلك
لأن كل طاقة لنا هي من عنده
…
حتى الفكر الصائب ، وحتى مجرد الإرادة الطيبة ، وحتى القدرة على العمل .
وذ كاؤنا هذا الذي نعتمد عليه ، هو أيضاً من عنده . وما أصدق قول الرسول "
لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل تعلموا لأجل المسرة "
(فى 2 : 13 ) .
إن عملنا فى الواقع ، هو أن نشترك مع الله ، فى عمله لأجلنا .
وهذه هى شركتنا مع البيعة الإلهية ، شركتنا مع الروح القدس :
نشترك
مع الله فى العمل . كما قال القديس بولس الرسول عن نفسه وعن زميله أبولس "
نحن عاملان مع الله " ( 1كو3 : 9 ) . وكل عمل لا يشترك الله معنا فيه ، لا
يكون عملاً مقدساً ، ولا عملاً مباركاً . وتسليمنا الإرادة لله ، هو نوع
من الشركة معه ، نكون فيه كالآت طيعة بين يدية تعمل مشيئته . هو يسيرها
كيفما يشاء . وهى تعمل بفكره وإرادته ، أو بتسليم إرادتها لإرادته ، كشركة
الحواس مع المخ …
إن أخطر ما يهدد الحياة الروحية ، هو استقلال الإنسان عن الله .
وهذه
هى الخطية الكبرى التى وقع فيها شاول الملك فرفضه الله (1صم 16 ) . كان
يعمل بفكره وبتدبيره ، بعيداً عن مشورة الله وعن شركته . ولا يرى أنه
محتاج إلى أن يشترك الله معه في العمل . وكأنه يقول : مادمت أستطيع أن
أعمل هذا العمل ، فسأعمله ، بكل قوة ، وبكل سرعة ، وحتى بدون صلاة
…
لأن إرادتى وحدها هى التى سوف تعمله …
! وبدون اعتماد على الله . وإن فشلت ، ألجأ إليه ! مادام الله قد وهبنى عقلاً وإرادة ، فلماذا لا أستخدمهما ؟!
…
وكثيرون مثل شاول …
الله قد وهب البشرية العقل والإرادة . ولكن ليس لتستقل عنه !
وليس لكى تعتد بذاتها . فالكتاب يقول " وعلى فهمك لا تعتمد " (أم 3 : 5
) . ولنتذكر أن خطيئة الإنسان الأول ، كانت محاولته الحصول على المعرفة بعيداً عن الله ( تك 3 )
ومتى بدأ الإنسان يقول " أنا أعرف ، وأنا أقدر ، فما الحاجة فى هذا
الأمر إلى الله ؟! " يكون حينئذ قد بعد عن الإيمان بالله بالأنا ( الذات )
ال
Ego
…
أما المؤمن فلا يكتفى بالاعتماد على الله ، بل يسلمه كل شئ
…
ويقول
له :حياتى هى صنع يديك ، وهى الآن بين يديك ، إفعل بها ما تشاء . حيثما
تسيرنى أسير ، وكيفما تصيرنى أصير . أنا ليست لى إرادة خاصة ، فإرادتى
الوحيدة هى أن أصنع إرادتك ، وأن أتحد بإرادتك ، فأريد ما تريده أنت ، أنت
يا صانع الخيرات
…
لست أقول عن شئ إننى أعرف . فكل معرفة الإنسان هى جهالة عند الله (1كو 1 :
20 ) . المعرفة الحقيقية هى من عندك يارب وحدك . أنت هو الحكمة (1كو 1 :
24 ) . أنت " المذخر فيه كل كنوز الحكمة والعلم " (كو2 : 3 ) .
ولأننى أعترف أننى لا أعرف لذلك سلمت حياتى فى يديك .
أنت
تعرف الخير أكثر مما أعرفه . وأنت تعرف الخير لى أكثر مما أعرفه لنفسى .
وأنا واثق بحكمتك وبحسن تدبيرك لحياتى . حتى إن شئت لى التجربة أو الضيقة
، فأنا أقبلها باعتبار أنها خير خالص هو من يديك . ولولا ذلك ما كنت أنت
المحب ترضاها لى . حقاً فى حالات كثيرة ، لا تعرف أين هو الخير !
إن حياة التسليم لا تعرف الشكوى ولا التذمر ، بل تقبل كل شىء برضى وفرح
…
مادمت
يا أخى تثق بحكمة الله فى تدبيرك ، فلماذا إذن أنت تشكو أو تتذمر أو تتضجر
. إذا دخل التذمر إلى حياتك ، فافحص نفسك جيداً ، لئلا يكون إيمانك قد ضعف
وأنت لا تدرى .
الذى يحيا حياة الإيمان والتسليم ، يحيا دائماً فى فرح وفى شكر .
إنه
لا يشكو بل يشكر ، الابتسامة لا تفارق شفتيه ، والبشاشة لا تفارق وجهه ،
والفرح لا يفارق قلبه . إنه يؤمن بحكمة الله ومحبته . ويؤمن أن مشيئة الله
دائماً صالحة ومفيدة . وهو يخضع لمشيئة الله فى فرح …
لايخضع لمشيئة الله فى تغصب واضطرار.
وكأن قلبه يقول لله : " ماذا أفعل يارب ؟ أنت هو القوى وأنا الضعيف . وكل ما تعمله أنا أقبله . وأنا منتظر نهاية هذا الأمر
…
!! " . لا شك أن هذا كلام إنسان متعب فى داخله ، يتكلم بكلام تذمر فى أسلوب تسليم . وليس التسليم هكذا
…
إذن ما معنى " لتكن مشيئتك " فى حياة الإيمان وحياة التسليم ؟
الإنسان
المؤمن يقول يقول فى رضى قلبى كامل : أنا يارب خاضع لمشيئتك ، لأنى أحب
مشيئتك من أعماقى ، وأثق بك وبها . مشيئتك هذه أصلحت أفكارى ، وأصلحت
أحكامى على بعض الأمور ، وعدلت مسارى وطريقى …
ما أجمل طرقك يارب " ما أبعد أحكامك عن الفحص ، وطرقك عن الاستقصاء "
(رو11 : 33 ) . مشيئتك هذه هى أجمل أغنية فى فمى ، وأحلى الأخبار فى أذنى
. فلتكن مشيئتك إذن ، لأنه لا توجد مشيئة أخرى أياً كانت أصلح منها . إلى
جوارها أشعر بجهالة أية مشيئة تتعارض معها ، سواء كانت لى أو لغيرى …
ليست حياة التسليم ، هى الخضوع لسياسة الأمر الواقع ، دون اقتناع !
وليست
هى الخضوع لسياسة الضغط الإلهى ( ! ) الذى يفرض سلطانه عليك فرضاً ! وأنت
مضطر أن تخضع له سواء أردت أو لم تردد !! لا يا أخوتى ، ليس هذا هو معنى
عبارة " لتكن مشيئتك " . فحياة التسليم تعلمنا أن نشعر بأن مشيئة الله هى
الخير الكامل ، وهى أصلح ما يصلح لنا ، وهى سبب فرحتنا وبهجتنا ، ولهذا
كان داود النبى يتغنى بأحكام الله . ويقول للرب : أحكامك هى درسى . أحكامك
هى لذتى . أنا أتأمل أحكامك وأدرسها (مز119) .
التسليم لله ينبغى أن يكون تسليماً حقيقياً ، وليس حسب الظاهر .
البعض يظن أنه يسلم حياته لله ، بينما يفرض على الله خططه !
كلما
يتصرف الله فى حياته ، يحاول أن يستوقف الله ، ويقول له : إنتظر يارب لأرى
ما أنت فاعل بى . لا يصلح هذا الأمر . إعمل كذا وكذا لأستريح . وهكذا يود
أن يشتغل عند الله وزير تخطيط . هو يخطط ، والله ينفذ !! كلا ، ليس
التسليم هكذا ، إنما هو أن تترك الله يعمل حسبما يشاء ، وترضى بما يعمل .
ولا تقاوم خطط الله بتصرفاتك . لا تقاوم مشيئة بما تعمله حسب هواك
…
الإنسان المؤمن يترك التدبير الله . ولا يقبل أن يدبر نفسه بنفسه .
ماذا كانت خطية أبينا آدم سوى أنه بدأ يدبر نفسه : كيف يصل إلى المعرفة ؟ كيف يصير مثل الله ؟ كيف يكون نفسه ويبنيها
…
وهكذا سقط .
وخطية الشيطان ، هى أنه بدأ يدبر نفسه ، ويبنيها ويكبرها حسب هواه !
" أصعد إلى السموات . أرفع كرسى فوق كواكب الله
…
أصعد فوق مرتفعات السحاب . أصير مثل العلى " (1ش14 : 13 ، 14 ) . إنها خطط
تشبه أحلام اليقظة ، رسمها الشيطان لنفسه " فانحدر إلى أسافل الجب " .
وبالمثل الذين بنوا برج بابل ، جلسوا يخططون لبناء أنفسهم ، ففشلوا .
قالوا
" هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه فى السماء . ونصنع لأنفسنا إسماً
لئلا نتبدد على وجه الأرض " (تك11 :4 ) . فكان تخطيطهم ضدهم . وما خشوه ،
هو الذى صاروا إليه " فبددهم الله على وجه كل الأرض " (تك11 : 9 ) . أما
الإنسان الروحى فلا يفعل هكذا ، بل فى حياة التسليم يقول :
" إن لم يبن الرب البيت ، فباطلاً يتعب البناءون " (مز127 :1) .
الله هو الذى يبنينا وليس نحن . إذن نسلمه أنفسنا ليبنيها .
وهكذا
نعيش فى راحة ، مطمئنين إلى عمل الله فينا ، وإلى نجاح عمله . نقف ونتأمل
، فنرى عجائب من تدبيره . واثقين أنه يعمل الخير ، مهما كان الذى يحدث
أمامنا غريباً ، أو صعباً ، أو ضد ما كنا نرجوه .
ليس المهم أن نفهم ما يعمله الله . إنما المهم أننا بالإيمان والتسليم نتقبله .
والكتاب المقدس حافل بأمثلة التسليم فى حياة رجال الإيمان :
1
–
أبونا إبراهيم مثلاً ، كانت بداية قصته مع الله ، هى قول الله له " أترك أهلك وعشيرتك وبيت أبيك ، إلى الأرض التى أريك " (تك12
:1) .
وأبونا إبراهيم لم يسأل لماذا ؟ ولا إلى أين ؟ بل أطاع
…
هذه هى حياة التسليم ، التى لا تجادل ولا تناقش ، بل تقبل وتطيع ، بلا تردد . تدع فهمها جانباً ، وتركز على أمر الله .
2
–
وهكذا كان نوح فى الفلك ،
وكان يونان فى بطن الحوت ، وكان موسى فى البحر الأحمر
…
فى حياة تسليم كامل .
إنها طاعة الإيمان . مادام الله يريد هذا ، فنحن لا نناقشه . وما هو عقلنا المحدود الضعيف ، حتى يناقش الله غير المحدود ، كلى الحكمة
…؟!
إن موسى فى بدء إرساليته جادل الله فى كيف يدخل إلى فرعون (خر3) ، ولكنه
لما نما فى الإيمان والتسليم لم يجادل فى دخوله البحر الأحمر
…
3
–
القديسة العذراء مريم عاشت كمثال لحياة الطاعة والتسليم .
مع
كل محبتها للبترولية ، قيل لها أن تخطب لرجل وتعيش معه فى بيت واحد ،
فأطاعت . وأرسل لها الله ملاكاً يقول لها إنها ستحبل وتلد ، فقالت له "
هوذا أنا أمة الرب . ليكن لى كقولك " (لو1 : 38 ) …
ومع ولادتها لله الكلمة ، ورؤيتها كل ما أحاط بهذا الميلاد من معجزات ،
قيل لها أن تهرب به إلى مصر وتتغرب هناك ، فقبلت كل ذلك فى طاعة الإيمان .
وفى تسليم أيضاً رجعت من مصر ، وقبلت
أن تسكن فى الناصرة (متى2 :23) ، التى قيل إنها لا يخرج منها شئ
صالح (يو1 :46) . وكان شعارها فى حياة التسليم هذه ، عبارتها الخالدة
"ليكن لى كقولك "
4
–
ولعل الإيمان والتسليم يظهران فى حياة الرسل فى طاعتهم التلقائية لقول الرب
"إتبعنى" أو "هلم ورائى "
هكذا
قال الرب لمتى ( لاوى ) . وهو فى مكان الجباية (مر2 :14) فلم يناقش وإنما
" ترك كل شئ وقام وتبعه " (لو5 : 28 ) . ولم يفكر مطلقاً فى كل مسئولياته
وعمله . وبالمثل لما دعا الرب بطرس وأندراوس وباقي الرسل ، يلخص القديس
بطرس كل قصص هذه الدعوة بقوله للرب ( تركنا كل شيء وتبعناك ) ( لو 28:18 )
. أنها طاعة الإيمان التي تتبع الرب حيثما ذهب ، بلا سؤال ، بلا استفسار ،
بلا تفكير في المستقل\بل . وكما سنشرح أن كلاً منهم أطاع وهو لا يعلم إلي
ين يذهب ( عب 8:11 )
ونحن كثيراً ما ندعي ، فنحاول أولاً أن نطمئن على مستقبلنا .
لذلك نسأل الكثير من الأسئلة . ونحصل على ما نستطيعه من الضمانات وبكل هذا تخرج من الإيمان إلي العيان
…
إلي المستقبل الذي نراه بعيوننا ونطمئن إليه ، وليس إلي المجهول الذي نراه ، ونقبله بحياة التسليم والطاعة
…
5- من أمثلة حياة الإيمان والتسليم والطاعة ، أرميا النبي
سار وراء الله بالإيمان ، في طرق لم يفكر مطلقاً أن يسير فيها
…
وأخيراً لخص خبرته
في
حياة التسليم في عبارة عميقة قال فيها ( عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقة
ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته ) ( أر 23:10 ) . ولماذا لا يهدي خطواته ؟
لأن الله هو الذي يقود هذه الخطوات ويهديها …
هذه هي حياة التسليم ، أن تسير وراء الله ، وليس وراء فكرك
تسير
ليس وراء هواك ورغباتك ، وليس وراء مشيئة الناس أو مشورة الناس إنما وراء
الله نفسه الذي يقود حياتك . يضعها في أي وضع وفي أي موضع ، حسب أعماق
حكمته . فاسأل نفسك هل الله هو الذي يقود حياتك ؟ أم تقودها رغبة معينة ،
هي التي تحدد تصرفاتك ومسير خطواتك ؟
6- من الأمثلة العجيبة في حياة التسليم : يوسف الصديق
أظهر
له الله بالرؤي أنه سيصير سيداً لأخوته ، وسيجدون له جميعهم ( تك 10:37)
فماذا كان تحقيق الوعد ؟ أخذه إخوته وألقوه في بئر ليقتلوه . ثم باعوه
كعبد . وسحبه المديانيون من البئر ليبيعوه للإسماعيليين ( تك 28:37 ) . ثم
بيع لفوطيفار ليخدم في بيته
…
وفي كل هذا لم يحتج يوسف متذمراً على الرب وعلى أحلامه
…
بل سكت . وسلم في هدوء لما سمح به الرب ، وسلك بكل أمانة وإخلاص وقبل الحياة كخادم
…
ولكنه رضى بالبلوى ، والبلوى لم ترض به ! فإذا بتهمة باطلة رديئة تلفق ضده ، ويلقي به في السجن كفاعل أثم
…
!
ولم يحدث أن يوسف سأل الرب لماذا ؟
…
أو أين هي وعودك ؟
سكت
في مثل رائع لحياة التسليم وطاعة الإيمان . ولم يتذمر مطلقاً . وفي المرة
الوحيدة التي خرج فيها قليلاً جداً عن حياة التسليم ، وقال لرئيس السقاه
بعد أن فسر له حلمه ( حينما يصير لك خير ، تصنع إلي أحساناً ، وتذكرنى
لفرعون ، وتخرجني من هذا البيت ) ( تك 14:40 )
…
لما فعل هذا ، أجاب الوحي الإلهي على هذا الطلب بقوله ( ولكن لم يذكر رئيس السقاة يوسف، بل نسيه ) ( تك 23:40 )
…
ولكن الله لم ينس يوسف ، الذي بقى في السجن في حياة التسليم ، حتى أخرجه الله منه بمجد عظيم
…
7- ومن أمثلة حياة التسليم وطاعة الإيمان : داود النبي .
كان ( يرعى الغنيمات القليلات في البرية ) . وأرسل له الله صموئيل النبي ومسحه ملكاً . ولكنه لم يسلمه من الملك شيئاً
…
وبقى يرعي الغنيمات القليلات ، دون أن يتذمر . ثم اختير خادماً للملك شاول
المرفوض من الله الذي بغته روح ردئ من قبل الرب ( 1 صم 14:16 )
…
ولم يحتج داود
لم يقل أنا الملك المختار من الله . فكيف أخدم هذا المرفوض ؟!
بل في حياة التسليم تقبل الوضع . وكان يهدئ شاول الملك حينما تبغته الشياطين
…
وظل شاول يطارد داود ناقش الله ، أو قال له أين مواعيدك ؟ أين أستحق كل هذا ؟!
…
بل انتظر ، في هدوء وفي تسليم ، خلاص الرب . وقد كان …
8- ومن أمثلة حياة التسليم : تلاميذ الرب
دعاهم
الرب للخدمة كما قال لبطرس وأندراوس ( هلما ورائي فأجعلكما صيادي الناس)(
متى 19:4 ) ومرت ثلاث سنوات وهم يتبعونه ، دون أن يخدموا . ولم يصيدوا أحد
. ثم صلب الرب . وخافوا ، وأغلقوا على أنفسهم في العلية لئلا يصيدهم
اليهود
…
ومع كل ذلك لم يشكوا . وبقوا في حياة الإيمان والتسليم . وأخيراً بعد حلول
الروح القدس ، تمم الرب وعده . وفي يوم واحد تمكن بطرس بعظة واحدة من أن
يصيد ثلاثة آلاف نفس
…
ولو أنه كان كل يوم يصيد نفسين ، ما وصل إلي هذا الرقم كله ، ولكن حياة التسليم تقول للرسول :
. وانتظر الرب ) ( إنتظروا الرب . تقو وليتشدد قلبك
( مز 14:27 )
نعم يا رب سأنتظر وعدك في صيد الناس . ولكن هل إلي ثلاث سنوات وأكثر ؟ أنه
لكذلك . ولكن ( ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الله في
سلطانة وحده ) ( أع 8:1)
أن حياة التسليم لا تناقش الرب في مدى الانتظار الطويل لمواعيده
أنها
لا تقول له لماذا يا رب تجعل بطرس ينتظر أكثر من ثلاث سنوات ليصير صياداً
للناس ؟ ولماذا تترك إبراهيم ينتظر خمسة وعشرين عاماً حتى تحقق له وعدك في
ميلاد أسحق ؟ ولماذا تترك داود في مذلته من شاول عشرات السنوات ، حتى تحقق
له اختيارك له ملكاً
…
؟
إن حياة التسليم لا تشك ، وتري في الإنتظار جكمة إلهية .
فقد
كان داود صبياً حين اختياره . وكان الإنتظار نافعاً له حتى يكبر وينضج ،
وحتى يزداد الناس حباً له يوماً . كذلك كان الإنتظار نافعاً لبطرس حتى
تكتمل تلميذته للرب ، وحتى يحبن موعد حلول الروح القدس لينال به قوة هو
وسائر الرسل . كذلك كان الإنتظار نافعاً اسحق ، ليصير إبناً للموعد
…
9
–
من أجمل الأمثلة فى حياة التسليم : تقديم اسحق محرقة .
لقد
صبر ابرآم خمساً وعشرين سنة ، حتى ولد له اسحق ، إبنه المحبوب الذى أخذ
المواعيد من أجله . وفرح به فرحاً لا يوصف . وكبر اسحق . وإذا بالرب يقول
لأبينا إبراهيم " خذ إبنك وحيدك ، الذى تحبه ، إسحق …
وأصعده محرقة على أحد الجبال الذى أريك "
( تك22 :2 ) …
أى قلب يمكنه أن يحتمل هذا ؟! وأى عقل يسمع هذا ولا يشك
…
؟!
ولكن ابانا إبراهيم فى حياة التسليم ، لم يناقش
، ولم يتردد فى التنفيذ . بل بكر صباحاً ، وأخذ إسحق ليذبحه …
ولم يحسب نفسه أحن من الله …
ولم يشك فى محبة الله ولا فى حكمته …
إن الطاعة لا تكون فى الأمور السهلة فقط ، وإنما تظهر فى قمة سموها فى الأمور التى تبدو صعبة جداً فى التنفيذ .
حياة التسليم تظهر فى الدخول من الباب الضيق والطريق الكرب .
مادمت
أنت يا رب موافقاًعلى هذا الباب الضيق ، فإنه يكون أصلح الأبواب للدخول ..
ولا نناقشك بل نفرح بذلك ، ونرى أنك تختبر به محبة أولادك ، ونقاوة قلوبهم
، وتعد به لهم أكاليل ملكوتك …
وبهذا
الإيمان ، استقبل الشهداء والمعترفون كل أنواع الآلام في فرح . وكل أولادك
يا رب كانوا ( يحسبونه كل فرح حينما يقعون في تجارب متنوعة ) ( يع 2:1)
1-
هكذا سار أبونا إبراهيم وراء الله ، إلى المجهول
…
لم يكن يعلم إلى أين الطريق ، إنما كان واثقاً أن الله يصحبه فى الطريق ، ويرشد خطاه
…
2-
وهكذا حدث مع آبائنا الرسل الأطهار ، لما دعاهم الرب فتبعوه .
وهم لا يعلمون إلى أين
…
إذ لم يكن للمسيح مقر معروف ، بل لم يكن له أين يسند رأسه
( لو9 :58 ) .كان يطوف المدن والقرى يعلم ويشفى ، مع أنه لم تكن له وظيفة رسمية فى المجتمع اليهودى
…
ولم يكن له دخل مالى معروف . وحتى لما دعا تلاميذه ، قال لهم " لا تحملوا ذهباً ولا فضة ولا نحاساً فى مناطقكم
…
ولا تحملوا معكم شيئاً للطريق " (متى 10 :9 ، مر 6 : 8 ) .
ولو
سألت أحد تلاميذه وقتذاك : ما هو عملك ؟ وما هو مستقبلك مع المسيح ؟ لوقف
وأوقفك معه ، أمام علامة استفهام كبيرة لا يعرف لها جواباً ، سوى حياة
التسليم …
يكفيه أنه سائر مع المسيح ، مع أنه معه وفى وجوده لايعمل شيئاً …
المسيح يعمل كل شئ ، وتلاميذه مجرد متفرجين .
3-
3-خذوا مثالاً لذلك القديس مار مر قس الرسول حينما دخل الإسكندرية :
دخلها وهو لا يعلم إلى أين يذهب ، إذ لم تكن هناك كنيسة يستقر فيها ، ولم يكن له هناك شعب ، ولا مسكن
…
بل على العكس كانت الوثنية فى كل مكان ، وكانت اليهودية تقاوم الإيمان جاء
مارمرقس إلى مصر ، وأرشد الله خطاه إلى إنيانوس ، وما كان فى فكره هذا
الأمر
…
وما حدث لمارمرقس ، حدث تقريباً لباقى الرسل . تتنوع الأمكنة والأسماء ، ولكن قلب الموضوع واحد . وكأن كل رسول كان يقول :
لو كانت الخدمة عملاً بشرياً ، لكان يهمنى أن أعرف خطية مسيرى . أما والخدمة عمل إلهى ، فلا يهمنى إلى أين أذهب
. أنا مع الله . حيث قادنى أسير .
4
–
يوحنا المعمدان كان يرى أن واجبه هو أن يشهد للحق . فشهد للحق وقال لهيرودس الملك "
لايحل لك " ولم يهتم بعد ذلك إلى أين يذهب : إلى السجن ، إلى الموت
…
ليكن ما يكون . رسالة الله تتم فى طاعة إيمانية كاملة . أما الحياة ، وأما المصير ، فهما مسلمان الله
…
إلى التمام . وهكذا كان بولس الرسول يشهد للرب …
وبعد ذلك لا يهمه إلى أين يذهب : "أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عرى أم
خطر أم سيف " ، يقول فى ثقة بحياة التسليم " لكننا فى هذه جميعها ، يعظم
انتصارنا بالذى أحبنا " ( رو8 : 35 ،37 ) . بهذا الأسلوب ، سار أولاد الله
جميعهم
فى طريق الحياة فى حياة التسليم .
كل ما يهمهم هو أن الله يقودهم . ولكن لا يعنيهم إلى أين
…
ولكنهم واثقون بالإيمان ، أنه سيقودهم إلى المراعى الخضراء ، وإلى ينابيع
الماء الحى . خبرتهم مع الله تجعلهم مسرورين بقيادته ، واثقين بمحبته .
5
–
إسحق بن ابراهيم حمل الحطب وراء أبيه ، ولم يعلم إلى أين يذهب .
كل
ما تعلمه فى حياته ، هو التسليم والطاعة ، وبهما سار حتى إلى المذبح .
وربطه إبراهيم أبوه ووضعه على المذبح فوق الحطب ( تك22 ) ، ورفع عليه
السكين . كل هذا وإسحق فى تسليم كامل . لم يشك فى محبة الله …
وانتصر على طول الخط . بتسليمه هذا ، كسب طاعة الإيمان ، وكسب حياته ، وكسب وعود الله
…
6
–
لعازر الدمشقى لما سافر ليختار زوجة لإسحق ، ما كان يعلم إلى أين يذهب .
ولكنه
سلم خطاه لله ليرشده . ودبر الله له كل شئ بطريقة عجيبة وقف أمامها
مذهولاً . وتم كل شئ حسبما طلب منه سيده ابراهيم . ولهذا قال " الرب أنجح
طريقى " (تك 24 : 56 ) . ولعل لعازر الدمشقى كان يقول " لم أكن أعلم إلى
أين أنا أذهب . لكنى كنت أعلم تماماً أن الله ذاهب معى " . ونفس الوضع
تقريباً حدث ليعقوب فى رحلته إلى خاله لا بان . وما أجمل قول الرب له "
هاأنا معك . أحفظك حيثما تذهب " ( تك28 :15 ) .
7
–
الشعب فى البرية ، أتراه كان يعلم إلى أين يذهب ؟!
ما
كان يعلم شيئاً . كان الله يقوده يوماً بيوم . وكان يرتحل بإرشاد إلهى ،
ويقف بإرشاد إلهى ، ويقف بإرشاد إلهى . وكان هذا الإرشاد يتمثل فى السحابة
تظلله نهاراً ، وعمود النار يهديه ليلاً …
والشعب فى تسليم كامل لقيادة الله ، لا يسأله إلى أين …
؟ وما كانت أمام موسى النبى خطة لمسيرة ، وكأنه يقول : يكفينا يارب أن تكون سحابتك فوق رؤوسنا ، وعمود
النار أمامنا . نحن لا نحدد مسارنا ، إنما تحدده مشيئتك الصالحة . أما نحن فيسعدنا
أننا تحت قيادتك . حيثما سارت سحابتك نسير . وحيثما حلت نستظل تحتها …
يفرحنا أننا نرى فوق تابوت العهد الضباب الذى يمثل وجودك . فلتتحرك خيمة
الإجتماع فى البرية نحو المجهول . إنه مجهول بالنسبة إلينا . ولكنه فى
علمك ومعرفتك منذ الأزل . وهذا يكفينا ، لكى نسلم خطانا لهذا المجهول ،
ونحن فى ملء الثقة بأننا فى طريق كنعان
8
–
القديس الأنبا أنطونيوس أب جميع الرهبان ، حينما دخل إلى الجبل ، أتراه
كان يعلم إلى أين يذهب ؟! وكذلك القديس الأنبا بولا أول السواح
…
وأيضاً كل السواح والمتوحدين حينما توغلوا فى البرية الجوانية
، ما كان أمامهم هدف مكانى معين يقصدونه . كل ما كان أمامهم هوالهدف الروحى وهو أن ينفردوا
بالله فى حياة السكون والهدوء ، مسلمين حياتهم بالكلية له " تائهين فى البرارى والجبال وشقوق الأرض "
…
تسأل كل واحد من التائهين فى البرارى : أتعلم أين أنت ؟ فيجيبك :
على خريطة المكان ، لست أعلم أين أنا
…
ولكن على خريطة الحب ، أعلم أننى فى حضن الآب .
9
–
ولعل البعض يسأل : أما ينبغى أن يحسب كل إنسان حساب النفقة ، حسب وصية الرب نفسه
(لو14 :28 ) ؟ إن حياة الإيمان ، هى أبعد ما تكون عن علم الحساب
الذى يقصدونه . إذن ما الذى يقصده الرب بأن يجلس الإنسان أولأ ويحسب
النفقة ؟
حساب النفقة هو : هل عندك من الإيمان ما يكفى ؟
هل عندك من الإيمان ما تسلم به الأمر كله لله لكى يدبره ؟ إنك
تفعل ما تستطيعه . ولكن هذا هو أقل المطلوب . أما العنصر الأساسى فهو إيمانك بما يفعله الله ، وتسليمك له كل الأمر
…
وهذا كان منهجنا ، حينما كنا نريد أن نبنى كنيسة أو أى مشروع للخدمة
والرعاية . لم يكن السؤال الأساسى هو " من أين التكاليف ؟" ، إنما كان
السؤال الأساسى هو : هل الله موافق على هذا البناء أم لا ؟ فإن كان
موافقاً فهو الذى سيقوم بكل تكاليفه . وما علينا إلا أن نبدأ ، ويد الله
تكمل العمل معنا " وإن لم يبن الرب البيت ، فباطلاً يتعب البناءون " (
مز127 : 1 ) .
الإيمان هو أن تغمض عينيك ، وتبصر الله .
طالما
أنت تفتح عينيك ، فأنت تسير بالحواس الجسدية . أما إن أغمضت هذه العين
الجسدانية ، حينئذ سوف تسلك بالقلب والروح . إن تأكدت بحواسك الروحية أن
الله سيذهب معك فى طريق سر فيه ولو كان فى وادى ظل الموت . يقنيناً هناك
سوف لا تخاف شراً لأن الرب معك (مز23) .
10
–
هذه هى حياة التسليم ، التى فيها يختار الرب لنا ما نشاء ، دون أن نختار نحن لأنفسنا . آخذين درساً من قصة لوط وإبراهيم .
لوط
اختار لنفسه السكنى فى سادوم ، الأرض المعشبة ( تك14 :10 ،11 ) . وكان
يعلم إلى أين يذهب . أما إبراهيم فلم يختر لنفسه شيئاً . إنما قال له الرب
" إرفع عينيك وانظر …
جميع الأرض التى أنت ترى ، لك أعطيها " ( تك 10 : 14 ،15 ) …
وماذا كانت النتيجة ؟ لوط سبى وهو فى سادوم وأنقذه إبراهيم ( تك 14 ) . ثم احترق كل ماله فى سادوم وخسر الكل
…
وهكذا كانت حياة التسليم التى لإبراهيم ذات نتيجة أفضل …
منقول